١٦/١٠/٢٠٢٥
ميخائيل عوض
(١)
زمنُ اللامعقولِ والتصرّفاتِ اللامنطقية، هكذا هو زمنُ الفوضى وانهيارِ القديم لتأمينِ شروطِ تبلورِ ونضجِ الجديد.
قادَ الجولاني مجاميعَ من الإرهاب – بحسب تصنيف مجلس الأمن الدولي – وتسبّب بتدمير سورية وإنهاكها، واستدرجت جماعاتُه قوانينَ الحصار وجيوشًا تركيةً وأمريكيةً وأطلسيةً وعشراتِ آلافِ الإرهابيين والمرتزقة، فاحتلت المناطقَ الأكثرَ أهميةً بثرواتها وموقعها الجيوسياسي.
توفّرت فرصته لاقتناصِ السلطة، وتمّت عمليةُ استلامٍ وتسليمٍ مبهمة، لكنها مهزلةٌ بين جماعتِه والنظامِ السابق.
(٢)
تحتَ شعاراتِ تصفيةِ الاحتلال الإيراني والروسي وتحريرِ سورية واستعادتها أمويّةً، حكمَ إدلبَ بالحديدِ والنار، وارتمى في حِضنِ تركيا وبريطانيا للعبورِ إلى قلبِ الإدارة الأمريكية.
خدمته الظروفُ والتحوّلاتُ، وعجز النظامِ والمحورِ عن فهمِ الجاري وتوصيفِ الحرب، والارتباكُ في التعاملِ مع عجائبيةِ غزّة بطوفانِها الإعجازي، فقبضَ على السلطة في سورية، وبادرَ من فوره بإطلاقِ يدِ الأتراك، وعملَ بإملاءاتهم لإشاعةِ التوحّش، فإدارتُه بلوغًا للتتريك؛ فأردوغانُ يريد سلجوقيةً أردوغانيةً بثوبٍ عثمانيٍّ وبزعمِ الإخوانيّة والخلافةِ السنية.
(٣)
الرجلُ بَرَّ بوعدِه لأسيادِه؛ فحلَّ الدولةَ والجيشَ والأجهزة، ووفّرَ لإسرائيلَ فرصتها التي لم تحلم بها، فدمّرتِ البُنى التحتية والأنفاقَ والمعسكراتِ والأسلحة، وقصفت دمشقَ ووزارةَ الدفاع، واحتلت ثلاثَ محافظاتٍ عزيزةٍ على سورية، وتنهبُ المياهَ والجغرافيا، وتقيمُ في أعلى قمم جبل الشيخ، ويدُها ورجالُها يعبثون بكاملِ سوريةَ يسرحون ويمرحون.
جاءَ لتصفيةِ الاحتلال الروسي ولحكمِ سورية واستعادةِ مجدِ الأمويين، فهَمَّشهم واستبدل مشايخَهم ودعاتَهم ومؤسستَهم الدينيةَ بخاصّياتِها الشامية التي حملتِ الإسلامَ إلى العالمية، وقبلَه المسيحيةَ إلى أركانِ الأرضِ الأربعة، وبطشَ بتُجّارِها وصناعييها المشهودِ لهم أينما ذهبوا وبأيِّ أرضٍ وطِئوها.
فالالتزامُ أمام السلجوقيّ أردوغان، والسجودُ على عتباتِه وعدٌ لا يقوى على مخالفته، وإلا قُتِل.
نصّبَ نفسَه رئيسًا، وحمل متاعَه، وكرّر زياراتِه للسعودية والإمارات وقطر، ومرارًا إلى إسطنبول، ووقّع وفوّض التركيَّ بكل أركانِ السلطة والدولة والمجتمع والاقتصاد والاجتماع، وأطلقَ يدَ التتريك الجاريةَ على قدمٍ وساق.
(٤)
وعودٌ وأوهامٌ ومفاخرةٌ وعربداتٌ لا حدَّ لها؛ بمجرد أن صافحه ترامب وجالسه لبضعِ دقائق استجابةً لطلباتِ ابنِ سلمان وأردوغان، وفي إعلامِه تحوّلت سورية إلى جنّةٍ ودولةٍ قطبية، وانهمرتِ الهباتُ والأعطياتُ، وأنشأ برجَ ترامب في دمشق، وتحولت سورية إلى "ريفيرا" الشرق والغرب؟!
وهلّلَ الرَّهطُ لزيارته لواشنطن وحضورِ الجمعية العامة، ورُسمت الأوهامُ، برغم أنّه عادَ خاليَ الوفاض!
(٥)
الخيبةُ أصابتْه ورَهطَه من كلّ تلك الزياراتِ والهمروجاتِ الإعلامية، والسوريون جميعًا اكتشفوا الكذبة؛ فلا الكهرباءُ تحسّنت، ولا الأعمالُ والرواتبُ تأمّنت، ولا الأمنُ الشخصيّ والمجتمعيّ تحقق، ولا تحريرُ سورية من الأجانب تمّ.
بالعكس، احتلالٌ إسرائيليٌّ صارخ، وتسليمٌ وتعايشٌ، واحتلالٌ تركيٌّ مباشرٌ وغيرُ مباشرٍ يأخذُ مداه، واحتلالٌ أمريكيٌّ وأطلسيٌّ، ولا من ينفخُ في موقدِ الكرامةِ والسيادةِ الوطنية، ولا ذِكرَ لمآثرِ الأمويين وتسيُّدِهم العالمَ في زمنِهم.
(٦)
استجداءُ موسكو وملاطفتُها وتكرارُ زياراتِ رجالِ الجولاني لها أثمرت.
الهرولةُ إليها والاحتفاليةُ الخبيثةُ للروسيّ به وبرفقته، وإطلاقُ الكلامِ المعسول، وقد حقّق بوتين إحدى غاياتِه: الإقرارُ من السلطةِ الانتقاليةِ بأهميةِ روسيا، والالتزامُ بالاتفاقاتِ الموقّعة مع الأسد، والالتزامُ بتسديدِ الديون، بمقابلِ احتفاليةٍ بالزيارة لا غير؛ فلا وعودَ ولا اتفاقاتٍ ولا توقيعاتٍ ولا إجراءاتٍ ملموسة.
فقد أسقطَ بوتين ذريعةَ ودعايةَ أنّه وروسيا متهمان بإسناد النظام السابق وبالقصفِ والتدميرِ ونهبِ الثرواتِ والسيادة، فقد جاء الجولاني – بعد أن سوقه الأمريكيون والبريطانيون والأتراك والخليجيون – وأقرّ بلسانه أنّ روسيا لم تكن محتلةً ولا مسؤولةً عمّا جرى، إنما ملاذًا له في سعيه للاستقواء بها على إسرائيل، واستجداءَ عودةِ الشرطةِ العسكريةِ الروسية (ألم تكن أداةَ احتلال؟!)، وطلبَ الإسناد لتشغيلِ بعضِ الورشِ والآبارِ والقمحِ والأدويةِ والإعمار.
بوتين، عندما سُئلَ: كيف ستموَّل الحملةُ الروسيةُ في سورية مع بدء عاصفة السوخوي؟ أجاب: من رصيدِ المناورات.
ثم أسهمتِ الصين، ولم يموّلْها النظامُ السابقُ، ولا رتّب بموجبِها على سورية ديونًا.
فماذا ينتظرُ الجولاني من بوتين سوى دفعِ كلفةِ الحملةِ وكُلفِ الأسلحةِ التي ناورَ وزيرُ دفاعِه بطلبِها كعرضٍ كاذبٍ مغرٍ لا يعتبرُه بوتين جادًّا؛ فقد جرّبَ معلمَه أردوغان بصفقةِ الـ S-400، ولم يجرؤ على تشغيلِها، فكيف بخادمه؟!
(٧)
منذ وقتٍ، تقولُ التسريباتُ إنّ الجولاني يفاوضُ حزبَ الله تحت الطاولة، ويستجدي الإيرانيَّ الإسنادَ النفطيَّ والماليَّ والمساعدةَ على تمويلِ بعضِ الحاجات.
تلك لم تُسرَّب عبثًا، بل للتمهيدِ والترويجِ والتطبيع.
فلا تستبعدوا زيارةً له إلى طهران، وقد لا يطولُ بها الزمنُ إن طالتْ إقامتُه في القصر.
(٨)
نواتجُ زيارةِ موسكو: صكّ براءةٍ لبوتين ولروسيا، وإقرارٌ واعترافٌ بأن لا بديلَ لها في سورية، وبأن وعودَ الخليجيين والأمريكيين والعقودَ التي وُقّعت وأُعلن عنها ليست إلا أكاذيبَ وفبركاتٍ ووعودًا فارغة.
فالعلاقاتُ الروسيةُ السوريةُ ليست بنتَ زمنِها، بل تمتدّ جذورُها إلى بطرسَ الرسولِ ورحلتِه إلى الشرق، وعمقِها إلى الحدّ الذي قالت فيه القيصرةُ كاترينُ العظيمة: مفتاحُ بيتِ أبي بدمشق.
وكذلك بطرسُ الأكبرُ، وبوتين على طريقِهم.
وللتذكير، فخالدُ العظم، الرأسماليُّ الشاميّ، وسُمِّيَ بالأحمر، أخذ بيد عبد الناصر وذهب إلى موسكو لبناءِ السدِّ العالي والتسليح، وقادا المنطقةَ من الشام إلى التحالفِ الاستراتيجيِّ مع السوفييت في مواجهةِ أمريكا وأحلافِها وتركيا وأطماعِها بالشام (شام شريف).
أما العلاقةُ بين الشام والإيراني فهي عتيقةٌ تتجدّد منذ بدء التاريخ، ومنذ تحضُّر البشر، وتستمرّ، فأحكامُ الجغرافيا والزمنِ حاكمةٌ.
لم تحصدِ الشامُ من الجولاني والجماعاتِ التي غزتها بقيادةِ أردوغان وأتباعِه إلا الذلَّ والوَهَنَ والجوعَ، والتفريطَ بكرامتِها وأرضِها وسيادتِها وعزّتِها، والحاكمون يناورون ويسعون لإفقادِها طبائعَها وقيمَها بتتريكِها ونسفِ نموذجِها الفريدِ وتنوُّعِها.
لهذا انتُدب الجولاني لإدارتِها وسُلِّمت سلطاتُها، ولإنجازِ المهمةِ يجولُ ويصولُ ويزورُ ويفشخر.
إلا أنَّ حقائقَ زمنِ سورية وعودتِها أقدرُ على فرضِ منطقِها؛ والشاهدُ اضطرارُ الجولاني للاعتذارِ من بوتين وطلبِ إسنادِه، على عكسِ الزعمِ بأنَّه جاءَ محرِّرًا لسورية من الاحتلال الروسي.
غدًا في طهران، ماذا سيقول؟ وكيف سيتصرّف أتباعُه ومريدوه والموهومون بمشاريعه؟